قد يؤدي شيء بسيط مثل تناولك فنجانًا من القهوة مع زميل لك إلى إنجازٍ علمي. هذا بالضبط ما حدث مع سوزانا نونيس ونيفين خشاب، وهما اثنتان من الكيميائيين المرموقين لدى جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)؛ إذ أثمر حوارٌ عارض بينهما عن علاقة عمل استثنائية تُوجتْ بالتوصل إلى أغشية فصل انتقائية عالية الأداء.
وأغشية الفصل الانتقائية تُستخدم لفصل مركبات بعينها في محلول ما من خلال رفض المواد غير المرغوب فيها والسماح لسواها بالمرور عبر الأغشية.
تقول نيفين في هذا الصدد: "يجاور مكتبي مكتب سوزانا، ورغم تقديري لها منذ سنواتٍ طويلة باعتبارها قدوةً يُحتذى بها، وعضوةً مؤسِّسة من أعضاء هيئة التدريس، وصديقةً في الوقت ذاته، لم يجمع بيننا قط مشروعٌ بحثي مشترك. وفي صبيحة يومٍ من أيام العمل، جمعنا لقاءٌ أثناء فترة استراحة لتناول القهوة، وانخرطنا معًا في الحديث عن مشروعاتنا البحثية؛ فأنا أعمل على تصميم جزيئات عالية التخصص معدلة وراثيًا من أجل الاستفادة منها في تطبيقاتٍ متنوعة، بينما تتخصص سوزانا في تقنية الأغشية".
من جانبها تقول نونيس: "كان قرارنا بالعمل معًا تلقائيًا تمامًا؛ إذ كانت تلك لحظة تجلٍّ أدركتُ فيها أن الأغشية يمكن أن تستفيد من لبنات بناء جزيئية مصممة خصيصًا كتلك التي تصممها نيفين. فمهمة تنقية المذيبات العضوية على المقياس النانوي تنطوي على تحدٍ كبير يسعى العلماء جاهدين لاجتيازه منذ سنواتٍ طويلة، وها هو أحد الحلول الممكنة قد انكشف أمامي فجأةً!"
أثمرت هذه المحادثة العارضة عن جهدٍ بحثي مشترك فريدٍ من نوعه؛ إذ تتعاون الباحثتان معًا على ابتكار استراتيجيةٍ جديدة لبناء أغشية مخصصة فائقة الرقة لعمليات فصلٍ انتقائية عالية الأداء في المذيبات العضوية، وقد نُشرتْ نتائج بحثهما في دورية «نيتشر كومينيكيشنز» Nature Communications.
تقول خشاب: "نشعر بفخرٍ كبير لأن بحثنا من أوائل الأبحاث التي نشرتْها «كاوست» في دورية «نيتشر كومينيكيشنز» من حيث كونه نتاج جهد باحثتين. وأتطلع إلى أن تحذو السيدات الأصغر سنًا حذونا، وأن يثقن بقدرتهن على تحقيق نجاحاتٍ مماثلة".
تحث الباحثتان غيرهما من النساء على أن يسلكن مساراتٍ مهنية في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، وهما تعملان بانتظام مع فتياتٍ ونساء يدرسن في المرحلة الجامعية والدراسات العليا في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، كما أنهما عضوتان في مجلس إدارة مبادرة «المرأة في مجالات العلوم والهندسة والأبحاث» (تُعرف اختصارًا باسم «وايزر» WISER)، تلك المبادرة التي أطلقتها «كاوست»، والتي تنظم فعاليات للفتيات من خلال نشر الوعي في المدارس وعقد المؤتمرات. وتحتفي هذه الفعاليات بإنجازات المرأة في مجالي العلوم والهندسة..
تقول نونيس: "يتعين علينا أن نُولي اهتمامنا للفتيات في سن مبكرة للاستفادة من المزايا التي يتمتعن بها من حب استطلاع وإصرارٍ على الدخول إلى معترك العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات. لقد أُهديتْ إليّ مجموعةُ أدوات كيميائية في عيد ميلادي السابع، وانطلاقًا من هذه الخطوة الأولية اتجهتُ إلى الدراسة في إحدى جامعات التقنية المتخصصة في الكيمياء بدولة البرازيل".
وبالمثل، انجذبتْ الخشاب إلى مجال الكيمياء في سنٍ مبكرة. فلطالما استهوتها الأدوية، وكانت تتوق إلى فهم آلية عملها، إذ تقول: "شاهدتُ أشخاصًا يتناولون أقراصًا وفجأة يشعرون بتحسنٍ، وكأن تلك الأقراص سحر، وبفضل هذا الشغف المبكر، صرتُ متحمسة جدًا لصنع مواد متخصصة من شأنها أن تُحقق تحسنًا في صحة الناس".
"بفضل هذا الشغف المبكر، صرتُ متحمسة جدًا لصنع مواد متخصصة تُحقق تحسنًا في صحة الناس".
تتفق الباحثتان على أن التعاون فيما بينهما يجب أن يحدث في سلاسة وشفافية وارتياح. فالأهداف جميعها يجب أن تكون واضحة منذ البداية، وهو المبدأ الذي لطالما اتبعتْه نونيس، كما يجب تقسيم المهام لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من المهارات التي يتميز بها كل فرد.
تقول نونيس: "الاحترام المتبادل شيءٌ بالغ الأهمية. فإذا لم تنظروا إلى الآخرين على أنهم على قدم المساواة، فلن تنموا وتتعلموا معًا أبدًا، وهذا في الواقع أفضل ما في التعاون. ويجدر بي أن أشير إلى أن هذه النصائح المتعلقة بالجهد التعاوني الناجح لا تقتصر على جنسٍ دون الآخر. فليس هناك ما يمنع على الإطلاق إقامة شراكات تعاون قوية مع زملائنا الرجال أيضًا".
تتفق خشاب تمامًا مع نونيس في هذا الرأي، رغم أن كلتيهما تشعران أن النساء يفهمن بعضهن بشكلٍ بديهي أكثر.
تقول خشاب: "مهما كانت طبيعة المهمة التي تؤديها، يجب ألا ينتابَك الشعور أبدًا بأنك مضطر إلى العمل مع شخص ما. فالأفكار الرائعة تُولد من رحم التفاعل البشري، من الرؤى التي تتفتق عنها العقول المتفتحة وتتشاركها. اجتهد في البحث عن الأشخاص الذين يمكنك أن تكون صريحًا معهم. يجب أن يقبل كل طرف أفكار الطرف الآخر وآراءه وعملياته وإجراءاته قبولًا غير منقوص، وإلا فستتأزم الأمور عند أول عقبة".
" الاحترام المتبادل شيءٌ بالغ الأهمية. فإذا لم تنظروا إلى الآخرين على أنهم على قدم المساواة، فلن تنموا وتتعلموا معًا أبدًا، وهذا في الواقع أفضل ما في التعاون".
من بين التحديات الكبيرة التي لا تزال الأوساط الأكاديمية والصناعية، على حدٍ سواء، تحتاج إلى التعامل معها – مسألة الاحتفاظ بالنساء اللائي يعملن في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات إلى ما بعد المرحلة الأولى من حياتهن المهنية. فليس واضحًا ما إذا كان مصدر الضغط هو المجتمع أم الخلفيات الثقافية أم الأسرة، لكن الكثير من النساء يخترن أو يُضطررن إلى ترك وظائفهن في تلك المجالات.
تقول نونيس: "يتعين علينا أن نكفّ عن التفكير في المسارات المهنية باعتبارها خطية ومباشرة، فالحياة المهنية للمرأة تمر بمراحل مختلفة عن الرجال، وتلك حقيقة. وعليه، فلا ينبغي أن تكون حياتهن المهنية خطية ومباشرة بسبب الزواج أو الأطفال. فالنساء قد يواجهن عقباتٍ إضافية تعرقل مسيرتهن، ومن ثم قد يُضطررن إلى البحث عن طرقٍ بديلة، وإعادة اكتشاف أنفسهن ثم النهوض مرة أخرى. كل هذا يجب أن يوضع في الاعتبار. ودورنا أن نسعى لتسهيل نموهن في هذه المراحل غير الخطية من حياتهن المهنية".
ومن جانبها تقول خشاب : "هذا يُعد أحد أبرز محاور عملنا في إطار مبادرة «المرأة في مجالات العلوم والهندسة والأبحاث». فنحن نشرح للفتيات جميع المسارات المهنية التي يمكن أن يسلكْنَها في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، كما نوضح لهن أن بمقدورهن العمل بأساليب مختلفة، ونُبيِّن لهن التنوع الكبير في الوظائف المتاحة ذات الصلة بمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، إذ لا تقتصر تلك الوظائف على الصناعة والأوساط الأكاديمية، وإنما تمتد لتشمل مجالاتٍ أخرى مثل القانون والحكومة".
تحث خشاب ونونيس الفتيات اللائي يتطلعن إلى شق طريقهن في تلك المجالات ، على التحلي بالمرونة والحفاظ في الوقت ذاته على إصرارهن، وعدم الاستسلام، وعلى البحث عن مزيج مثالي من العزيمة والحماس.
تقول خشاب: "أتفق مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في مقولتها الشهيرة: «ربما أنحني، لكنني لن أنكسر أبدًا». هذه أفضل نصيحة يمكنني أن أقدمها للفتيات العاملات في أي مجال".
وتضيف نونيس: "أقتبس عبارةً جاءت على لسان رائد الفضاء باز ألدرن، وهي: «ينبغي أن تجيد التعامل مع المنعطفات». هذا في رأيي ينطبق على المرأة في شتى ميادين الحياة".