من أجل تعزيز نمو نخيل التمر، والتكيّف مع تقلّبات المناخ في المملكة العربية السعودية، يدرس الباحثون في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) سُبلَ الحفاظ على أفضل أصناف التمر، وتطوير بروتوكولات استنباتها، وفهم تكوينها البيولوجي، وحمايتها من الأمراض وتغيُّر المناخ. يمثّل نخيل التمر، بعُمْره الذي ربما يتجاوز ثمانية آلاف عام، أهمية رفيعة للمملكة العربية السعودية على الصعيدين الثقافي والاقتصادي، ويأتي في صدارة رايتها الوطنية، بوصفه رمزًا للنماء والحيوية والازدهار. كذلك، فإن السعودية إحدى أكبر الدول المنتجة لنخيل التمر في العالم.
" أحد أركان رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030 تتمثل في أن تُنتِج محاصيل أكثر استدامةً".
يقول رود وينج، اختصاصي علم النباتات: "تتمثل رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030 في أن تكون دولة أكثر استدامة تُنتِج محاصيل مستدامة. وتحقيق هذا يتطلّب، على سبيل المثال، خفض استهلاك المياه، الأمر الذي يُملي علينا التعرف إلى التكوين البيولوجي للمحاصيل، لننتقي النباتات الصالحة للنمو في البيئات بالغة القسوة بينما تستهلك موارد أقل. كما يأتي التعليم والاستعانة بذوي الخبرة بين المتطلبات الأخرى لتعزيز جهود الاستدامة. ولذلك تُعنَى «كاوست» بتدريب الجيل القادم من مختصّي النباتات، الذين سيضطلعون بالإشراف على الزراعة وحماية البيئة في البلاد".
هنا يأتي دور مشروع «فاست فيت بالمز» Fast Fit Palms التابع ل«كاوست». يهدف المشروع الذي ترأسه إكرام بليلو، اختصاصية بيولوجيا الجذور النمائية، إلى إنشاء مستودع للجزيئات يمكن الاستعانة به في تعزيز نمو نخيل التمر والحفاظ على أفضل الأصناف المحلية. ويعكف مشروع «فاست فيت بالمز» كذلك على تأسيس برنامج لدراسة الاستنبات، بهدف تطوير قدرة محصول نخيل التمر على تحمّل الظروف البيئية القاسية. وسوف يُسهم هذا المشروع في تأسيس قاعدة معرفية، يطوّرها وينميها الجيل القادم من الباحثين.
موعد مع التمر
اشتعلت جذوة اهتمام بليلو بنخيل التمر عند تناوُلها تمرة في أثناء وجودها بهولندا، حينما كانت أستاذًا مشاركًا في جامعة أوتريخت. تقول بليلو: "وجدتني أحب التمور، فلماذا لا أدرسها؟ بعدها، حاولت إنبات البذور ونجحت. وسرعان ما بدأت الرحلة!"
"وجدتني أحب التمور، فلماذا لا أدرسها؟ بعدها، حاولت إنبات البذور ونجحت. وسرعان ما بدأت الرحلة!"
ولكن الأمر الذي بدأ على هيئة هواية تمارسها خلال عطلة نهاية الأسبوع داخل المُختَبَر التابع لجامعتها تَطوَّر وصار أبحاثًا حازت الجوائز. ففي عام 2020، حصلت بليلو وزملاؤها على «جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر والابتكار الزراعي» التي تمنحها دولة الإمارات العربية المتحدة، في فئة «الدراسات المتميزة والتقنية الحديثة».
كان المشروع الذي تقدَّمت به بليلو للحصول على الجائزة عبارة عن دراسة تشاركية بين باحثين في «كاوست» والمكسيك وإنجلترا والصين، أسفرت عن اكتشاف آلية يستعين بها نخيل التمر للبقاء على قيد الحياة في البيئات الجافة، حيث يتوقف عن النمو حتى تتحسّن الظروف المحيطة به.
توضِّح بليلو قائلة: "تخضع أشجار نخيل التمر لعملية الإنبات عن بُعد، وهو ما يعني أن هذه النباتات تكوّن هيكلًا داخل الأرض لحمل الشتلات، ومن ثمّ النبتة الصغيرة". ثم يتوقف نمو ذلك الجنين مؤقتًا داخل الهيكل الذي يكون وقتها في طور النمو والانقسام، يُسمَّى العنق الفلقيcotyledonary petiole . وعندما تصبح ظروف التربة مواتية، يبدأ النمو ويسمح بانفصال الجذور والبراعم ونموّها تحت الأرض وفوقها.
تقول بليلو: "يشغل نخيل التمر اهتمامنا لسبب آخر، هو أن جذوره لا تنمو فقط إلى أسفل، ولكن أيضًا بشكل جانبي وأحيانًا حتى إلى أعلى، مما يجعله يستهلك أقصى قدر من المياه من التربة المحيطة". ولهذا، فمن المنتظر أن تفيد نتائج هذه الأبحاث«كاوست» ومن ثم المزارعين في استحداث محاصيل أكثر قدرة على التكيف مع الظروف الصحراوية.
تضيف بليلو قائلة: "سيكون للتمور دور عظيم في تحقيق الأمن الغذائي مستقبلًا". فهذه الفاكهة الثمينة غنية بالسكر بطيء الهضم والفيتامينات والمعادن. وللنبات عدّة استخدامات أخرى، إذ يُمكِن استخدام جذوع الأشجار وأوراقها مواد للبناء، كما تدخل في صناعة المنسوجات، بينما نستفيد من البذور في استخراج زيت نخيل التمر وصناعة مستحضرات التجميل. بل وقد نجد حليب نخيل التمر معروضًا في بعض متاجر السلع الغذائية.
معركة الخنفساء
لكي تستمر هذه الأشجار المثمرة في النمو، يجب حمايتها من أحد أكثر أعدائها فتكًا، وهي سوسة النخيل الحمراء. تتغذَّى هذه الخنافس الطائرة على نخيل التمر وتضع بيضها داخله، مما يتسبب في تدمير عدد من مزارع النخيل في جميع أنحاء العالم. وتتسمعملية الكشف عن هذه الآفات فبالتكلفة العالمية والصعوبة، فضلًا عن أنها غير مضمونة النتائج، إذ وشملت حلول هذه المشكلة في الماضي الاستعانة بالكلاب المدربة على الشم، وإدخال مجسّات الاستشعار في بعض الأشجار، بل وفحص الأشجار باستخدام التصوير المقطعي المحوسب.
والآن، كشف بون أُوي، أستاذ الضوئيات، أحد الحلول، إذ كان قد ابتكر هو وفريقه نوعًا من الألياف الضوئية الدقيقة بهدف زيادة إنتاج النفط. وقتها، صمم الفريق مجسًّا بالغ الصغر يمكن إدخاله إلى عمق عدة كيلومترات تحت الأرض من خلال ثقوب آبار النفط، لينقل البيانات إلى مستَشعِر مُدَرَّب على خوارزمية، يعمل على مراقبة حركة السوائل داخل الأنابيب. وبعد أن سمع أُوي من بعض زملائه عن مشكلة سوسة النخيل الحمراء التي يواجهها مزارعو نخيل التمر المحليون، تواصل مع نائب رئيس «كاوست» لشؤون البحث العلمي وأبلغه قائلًا: "أعتقد أن لدينا حلًا يمكِّننا من فحص عدة أشجار في وقت واحد".
في أعقاب ذلك، أجرى أُوي وفريقه بعض التعديلات على المستَشعِر الذي كانوا قد ابتكروه، من بينها أنهم درَّبوه على تمييز أصوات المضغ التي تصدرها يرقات السوسة البالغة من العمر 12 يومًا عن الأصوات المحيطة الأخرى. وهكذا، أصبح جهازهم المعدّل قادرًا على إرسال نبضات ليزر من خلال أحد الألياف الضوئية الطويلة التي يمكن لفها حول عدد من الأشجار في آن واحد. يتسبّب صوت المضغ الذي تصدره السوسة في تشتيت تردد الضوء، ومن ثمّ تنتقل النبضات إلى المستَشعِر.
وقد اختبر الفريق هذه التقنية على مزارع نخيل التمر التي خصصتها وزارة البيئة والمياه والزراعة لأبحاث سوسة النخيل الحمراء بمحافظة الأحساء في شرق السعودية، كما جرى اختبارها في عدة مزارع خاصة.
يقول أوي: "إنه مشروع مُثْمِر ومفيد"، مضيفًا: "في أحد المزارع الخاصة، التقينا مُزارعًا يبلغ من العمر ستين عامًا، كان في أوج امتنانه لهذه التقنية، لدرجة أنه عانقنا وشدّ على أيدينا، إذ إن الخنفساء كانت قد قضت على مساحات كبيرة من النخيل في مزرعته".
كما جذبت هذه التقنية انتباه عديد من الأشخاص في جميع أنحاء العالم، إذ تواصل أناس في الولايات المتحدة والفلبين، على سبيل المثال، مع أوي، بغرض اختبار قدرتها على اكتشاف الآفات المماثلة التي تصيب أشجار الدردار والقيقب، وكذلك نخيل جوز الهند.
وقد سُجِّلَت براءة اختراع هذه التقنية، كما سيُطرَح قريبًا تأسيس شركة منبثقة عن «كاوست». وفي تلك الأثناء، يواصل أوي وزملاؤه تعديل المستَشعِر الذي ابتكروه لاستخدامه في مجالات النفط والغاز، وكذلك الزراعة.
تقول بليلو: "علينا أن نعتني بالنبات كما لو كان بَشَرًا". وتلعب أبحاث نخيل التمر ونشاطات التعاون التي تعكف عليها (كاوست) دورًا حيويًا في الحفاظ على هذا المحصول المستقبلي المهم، وحمايته، واستنباته.